الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم
.تفسير الآية رقم (55): {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55)}{إِذْ قَالَ الله} ظرفٌ لمكرَ الله أو لمضمر نحوُ وقع ذلك {ياعيسى إِنّي مُتَوَفّيكَ} أي مستوفي أجلِك ومؤخرُك إلى أجلك المسمَّى عاصِماً لك من قتلهم أو قابضُك من الأرض، من توفيتُ مالي، أو متوفيك نائماً إذ رُوي أنه رُفع وهو نائم، وقيل: مميتُك في وقتك بعد النزول من السماء ورافعُك الآن أو مميتُك من الشهوات العائقة عن التزوج إلى عالم الملكوت، وقيل: أماته الله تعالى سبعَ ساعاتٍ ثم رفعه إلى السماء وإليه ذهبت النصارى، قال القرطبيُّ: والصحيحُ أن الله تعالى رفعه من غير وفاةٍ ولا نومٍ كما قال الحسنُ وابنُ زيد وهو اختيارُ الطبري وهو الصحيحُ عن ابن عباس رضي الله عنهما، وأصل القصة أن اليهودَ لما عزموا على قتله عليه الصلاة والسلام اجتمع الحواريون وهم اثنا عشرَ رجلاً في غرفة فدخل عليهم المسيحُ من مِشكاة الغرفةِ فأخبر بهم إبليسُ جميعَ اليهود فركِبَ منهم أربعةُ آلافِ رجلٍ فأخذوا باب الغرفة فقال المسيحُ للحواريين: أيُكم يخرجُ ويُقتل ويكونُ معي في الجنة؟ فقال واحد منهم: أنا يا نبيَّ الله، فألقى عليه مدرعة من صوفٍ وعِمامةٍ من صوف وناوله عكّازَه وأُلقيَ عليه شبَهُ عيسى عليه الصلاة والسلام فخرج على اليهود فقتلوه وصلبوه، وأما عيسى عليه الصلاة والسسلام فكساه الله الريشَ والنورَ وألبسه النورَ وقطع عنه النورُ شهوةَ المطعمِ والمشرب وذلك قوله تعالى: {إِنّي مُتَوَفّيكَ} فطار مع الملائكة ثم إن أصحابه حين رأَوْا ذلك تفرَّقوا ثلاثَ فِرَقٍ فقالت فِرقةٌ: كان الله فينا ثم صعِدَ إلى السماء وهم اليعقوبيةُ، وقالت فرقة أخرى: كان فينا ابنُ الله ما شاء الله ثم رفعه الله إليه وهم النسطوريةُ، وقالت فرقةٌ أخرى منهم: كان فينا عبدُ الله ورسولُه ما شاء الله ثم رفعه الله إليه وهؤلاء هم المسلمون فتظاهرت عليهم الفرقتانِ الكافرتان فقتلوهم فلم يزل الإسلامُ منطمساً إلى أن بعث الله تعالى محمداً صلى الله عليه وسلم.{وَرَافِعُكَ إِلَىَّ} أي إلى محل كرامتي ومقرِّ ملائكتي {وَمُطَهّرُكَ مِنَ الذين كَفَرُواْ} أي من سوء جوارِهم وخبثِ صُحبتِهم ودنَسِ معاشرتِهم {وَجَاعِلُ الذين اتبعوك} قال قتادةُ والربيعُ والشعبيُّ ومقاتِلٌ والكلبيُّ: هم أهل الإسلام الذين صدّقوه واتبعوا دينَه من أمة محمدٍ صلى الله عليه وسلم دون الذين كذّبوه وكذَبوا عليه من النصارى {فَوْقَ الذين كَفَرُواْ} وهم الذين مكَروا به عليه الصلاة والسلام ومن يسير بسيرتهم من اليهود فإن أهلَ الإسلام فوقهم ظاهرين بالعزة والمَنَعة والحُجة، وقيل: هم الحواريون فينبغي أن تُحمل فوقيتُهم على فوقية المسلمين بحكم الاتحادِ في الإسلام والتوحيد، وقيل: هم الرومُ وقيل: هم النصارى، فالمرادُ بالاتباع مجرَّدُ الادعاء والمحبة وإلا فأولئك الكفرةُ بمعزل من اتّباعه عليه الصلاة والسلام {إلى يَوْمِ القيامة} غايةٌ للجعل أو للاستقرار المقدّرِ في الظرف لا على معنى أن الجعلَ أو الفوقيةَ تنتهي حينئذ ويتخلّص الكفرةُ من الذِلة بل على معنى أن المسلمين يعلُونهم إلى تلك الغاية فأما بعدها فيفعل الله تعالى بهم ما يريد {ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ} بالبعث، وثم للتراخي، وتقديمُ الجار والمجرور للقصر المفيدِ لتأكيد الوعدِ والوعيد، والضمير لعيسى عليه الصلاة والسلام وغيرِه من المتبعين له والكافرين به على تغليب المخاطَب على الغائب في ضمن الالتفاتِ فإنه أبلغُ في التبشير والإنذار {فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ} يومئذ إثرَ رجوعِكم إليّ {فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} من أمور الدين و{فِيهِ} متعلقٌ بتختلفون وتقديمُه عليه لرعاية الفواصل..تفسير الآية رقم (56): {فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (56)}{فَأَمَّا الذين كَفَرُواْ فَأُعَذّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً} تفسيرٌ للحكم الواقعِ بين الفريقين وتفصيلٌ لكيفيته، والبدايةُ ببيانِ حالِ الكفرة لما أن مساقَ الكلامِ لتهديدهم وزجرِهم عما هم عليه من الكفر والعِناد، وقولُه تعالى: {فِى الدنيا والاخرة} متعلقٌ بأعذبهم لا بمعنى إيقاعِ كلِّ واحدٍ من التعذيب في الدنيا والتعذيبِ في الآخرة وإحداثِهما يومَ القيامة بل بمعنى إتمامِ مجموعِهما يومئذ، وقيل: إن المرجِعَ أعمُّ من الدنيوي والأخروي، وقولُه تعالى: {إلى يَوْمِ القيامة} غايةٌ للفوقية لا للجعلِ، والرجوعُ متراخٍ عن الجعل وهو غيرُ محدودٍ لا عن الفوقية المحدودةِ على نهج قولِك: سأُعيرك سكني هذا البيتَ شهراً ثم أخلَع عليك خلْعةً فيلزَمُ تأخرُ الخُلع عن الإعارة لا عن الشهر {وَمَا لَهُم مّن ناصرين} يُخلِّصونهم من عذاب الله تعالى في الدارين وصيغةُ الجمعِ لمقابلة ضميرِ الجمعِ أي ليس لواحد منهم ناصرٌ واحدٌ..تفسير الآيات (57- 60): {وَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57) ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآَيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58) إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60)}{وَأَمَّا الذين ءامَنُوا} بما أُرسِلْتُ به {وَعَمِلُواْ الصالحات} كما هو ديدَنُ المؤمنين {فَيُوَفّيهِمْ أُجُورَهُمْ} أي يعطيهم إياها كاملةً، ولعل الالتفاتَ إلى الغَيبة للإيذان بما بين مصدري التعذيبِ والإثابةِ من الاختلاف من حيث الجلالُ والجمال، وقرئ {فنُوفيهم} جرياً على سَنن العظمةِ والكبرياء {والله لاَ يُحِبُّ الظالمين} أي بعضَهم فإن هذه الكنايةَ فاشيةٌ في جميع اللغاتِ جاريةٌ مَجرى الحقيقةِ، وإيرادُ الظلم للإشعار بأنهم بكفرهم متعدّون متجاوزوا الحدودِ واضعون الكفر مكانَ الشكرِ والإيمانِ، والجملةُ تذييلٌ لما قبله مقرِّرٌ لمضمونه.{ذلك} إشارةٌ إلى ما سلف من نبأ عيسى عليه الصلاة والسلام، وما فيه من معنى البُعد للدِلالة على عِظَمِ شأنِ المُشار إليه وبُعدِ منزلتِه في الشرف وعلى كونه في ظهور الأمرِ ونباهةِ الشأن بمنزلة المشاهَد المعايَن، وهو مبتدأٌ وقولُه عز وجل: {نَتْلُوهُ} خبرُه وقولُه تعالى: {عَلَيْكَ} متعلقٌ بنتلوه وقولُه تعالى: {مِنَ الايات} حالٌ من الضمير المنصوب أو خبرٌ بعد خبرٍ، أو هو الخبرُ وما بينهما حالٌ من اسمِ الإشارة أو {ذلك} خبرٌ لمبتدإ مضمرٍ أي الأمرُ ذلك ونتلوه حالٌ كما مر، وصيغةُ الاستقبال إما لاستحضار الصورةِ أو على معناها إذ التلاوةُ لم تتِمَّ بعدُ {والذكر الحكيم} أي المشتملِ على الحِكَم أو المُحكمِ الممنوعِ من تطرُّق الخللِ إليه، والمرادُ به القرآنُ فمن تبعيضيةٌ أو بعضٌ مخصوصٌ منه فمن بيانيةٌ، وقيل: هو اللوحُ المحفوظُ فمن ابتدائية {إِنَّ مَثَلَ عيسى} أي شأنَه البديعَ المنتظِمَ لغرابته في سلك الأمثال {عَندَ الله} أي في تقديره وحُكمِه {كَمَثَلِ ءادَمَ} أي كحاله العجيبةِ التي لا يرتاب فيها مرتابٌ ولا ينازِعُ فيها منازِع {خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ} تفسيرٌ لما أُبهم في المَثَل وتفصيلٌ لما أُجمِلَ فيه وتوضيحٌ للتمثيل ببيان وجهِ الشبهِ بينهما وحسمٌ لمادة شُبهة الخصومِ فإن إنكارَ خلقِ عيسى عليه الصلاة والسلام بلا أبٍ ممن اعترف بخلقِ آدمَ عليه الصلاة والسلام بغير أبٍ وأمٍ مما لا يكاد يصح، والمعنى خلق قالَبَه من تراب {ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن} أي أنشأه بَشَراً كما في قوله تعالى: {ثُمَّ خَلَقْنَا النطفة عَلَقَةً} أو قدّر تكوينَه من التراب ثم كوّنه ويجوز كونُ {ثُمَّ} لتراخي المُخبَرِ به {فَيَكُونُ} حكايةُ حالٍ ماضية، روي أن وفد نجرانَ قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: مالك تشتمُ صاحبَنا؟ قال: «وما أقول؟» قالوا: تقول إنه عبدٌ قال: «أجل هو عبدُ الله ورسولُه وكلمتُه ألقاها إلى العذراء البتولِ» فغضِبوا وقالوا: هل رأيتَ إنساناً من غير أبٍ؟ فحيثُ سلَّمتَ أنه لا أبَ له من البشر وجب أن يكون أبوه هو الله فقال عليه الصلاة والسلام: «إن آدمَ عليه الصلاة والسلام ما كان له أبٌ ولا أم ولم يلزم من ذلك كونُه ابناً لله سبحانه وتعالى فكذا حالُ عيسى عليه الصلاة والسلام».{الْحَقُّ مِن رَّبّكَ} خبرُ مبتدإ محذوفٍ أي هو الحقُّ أي ما قصصنا عليك من نبإ عيسى عليه الصلاة والسلام وأمِّه، والظرفُ إما حالٌ أي كائناً من ربك أو خبرٌ ثانٍ أي كائنٌ منه تعالى وقيل: هما مبتدأٌ وخبرٌ أي الحقُّ المذكورُ من الله تعالى، والتعرضُ لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضمير المخاطَبِ لتشريفه عليه الصلاة والسلام والإيذانِ بأن تنزيلَ هذه الآياتِ الحقةِ الناطقةِ بكنه الأمر تربيةٌ له عليه الصلاة والسلام ولُطفٌ به {فَلاَ تَكُنْ مّن الممترين} في ذلك، والخطابُ إما للنبي صلى الله عليه وسلم على طريقة الإلهابِ والتهييجِ لزيادة التثبيتِ والإشعارِ بأن الامتراءَ في المحذورية بحيث ينبغي أن ينهى عنه من لا يكاد يمكن صدورُه عنه فكيف بمن هو بصدد الامتراء؟ وإما لكل من له صلاحيةُ الخطاب..تفسير الآية رقم (61): {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (61)}{فَمَنْ حَاجَّكَ} أي من النصارى إذ هم المتصدّرون للمُحاجّة {فِيهِ} أي في شأن عيسى عليه الصلاة والسلام وأمِّه زعماً منهم أنه ليس على الشأن المحكي {مّن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ العلم} أي ما يُوجِبُه إيجاباً قطعياً من الآيات البيناتِ وسمعوا ذلك منك فلم يرعَوُوا عما هم عليه من الغي والضلال {فَقُلْ} لهم {تَعَالَوْاْ} أي هلُمّوا بالرأي والعزيمة {نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ} اكتُفيَ بهم عن ذكر البناتِ لظهور كونِهم أعزَّ منهن وأما النساءُ فتعلُّقُهن من جهة أخرى {وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ} أي ليدعُ كلٌّ منا ومنكم نفسَه وأعِزَّةَ أهلِه وألصقَهم بقلبه إلى المباهَلة ويحمِلْهم عليها، وتقديمُهم على النفس في أثناء المباهلةِ التي هي من باب المهالكِ ومظانِّ التلفِ مع أن الرجلَ يخاطرُ لهم بنفسه ويحارب دونهم للإيذان بكمال أمنِه عليه الصلاة والسلام وتمامِ ثقتِه بأمره وقوةِ يقينِه بأنه لن يُصيبَهم في ذلك شائبةُ مكروهٍ أصلاً وهو السرُّ في تقديم جانبِه عليه السلام على جانب المخاطَبين في كل من المقدم والمؤخرِ مع رعاية الأصلِ في الصيغة فإن غيرَ المتكلم تبعٌ له في الإسناد.{ثُمَّ نَبْتَهِلْ} أي نتباهلْ بأن نلعنَ الكاذبَ منا والبُهلةُ بالضم والفتح اللعنةُ وأصلُها التركُ من قولهم: بَهَلْتُ الناقةَ أي تركتُها بلا صِرار {فَنَجْعَل لَّعْنَتُ الله عَلَى الكاذبين} عطفٌ على نبتهل مبينٌ لمعناه، روي أنهم لما دُعوا إلى المباهلة قالوا: حتى نرجِعَ وننظُرَ فلما خلَوْا قالوا للعاقب وكان ذا رأيهم: يا عبدَ المسيح ما ترى؟ فقال: والله لقد عرفتم يا معشرَ النصارى أن محمداً نبيٌّ مرسل ولقد جاءكم بالفصل من أمر صاحبِكم، والله ما باهل قومٌ نبياً قط فعاش كبيرُهم ولا نبت صغيرُهم، ولئن فعلتم لتهلِكُنّ، فإن أبيتم إلا إلفَ دينِكم والإقامةِ على ما أنتم عليه فوادِعوا الرجلَ وانصرِفوا إلى بلادكم، فأتَوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وقد غدا محتضِناً الحسينَ آخذاً بيد الحسنِ وفاطمةُ تمشي خلفَه وعليٌّ خلفها رضي الله عنهم أجمعين وهو يقول: «إذا أنا دعوتُ فأمِّنوا» فقال أسقفُ نجرانَ: يا معشرَ النصارى إني لأرى وجوهاً لو سألوا الله تعالى أن يُزيل جبلاً من مكانه لأزاله، فلا تُباهلوا فتهلِكوا ولا يبقى على وجه الأرضِ نصرانيٌّ إلى يوم القيامة، فقالوا: يا أبا القاسم رأينا أن لا نباهِلَك وأن نُقِرَّك على دينك ونثبُتَ على ديننا، قال صلى الله عليه وسلم: «فإذا أبيتم المباهلةَ فأسلِموا يكنْ لكم ما للمسلمين وعليكم ما على المسلمين» فأبَوْا، قال عليه الصلاة والسلام: «فإني أناجِزُكم» فقالوا: ما لنا بحربِ العربِ طاقةٌ ولكن نصالِحُك على ألا تغزونا ولا تُخيفَنا ولا ترُدَّنا عن ديننا على أن نؤدي إليك كلَّ عامٍ ألفي حُلةٍ، ألفاً في صَفَر وألفاً في رجبٍ وثلاثين درعاً عادية من حديد، فصالحهم على ذلك وقال: «والذي نفسي بيده إن الهلاكَ قد تدلَّى على أهل نجرانَ، ولو لاعنوا لَمُسِخوا قِردةً وخنازيرَ ولاضْطَرمَ عليهم الوادي ناراً ولاستأصَلَ الله نجرانَ وأهلَه حتى الطيرَ على رؤوس الشجر، ولما حال الحولُ على النصارى كلِّهم حتى يهلكوا»..تفسير الآيات (62- 64): {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (63) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64)}{إِنَّ هَذَا} أي ما قُصّ من نبأ عيسى وأمِّه عليهما السلام {لَهُوَ القصص الحق} دون ما عداه من أكاذيبِ النصارى، فهو ضميرُ الفصلِ دخلتْه اللامُ لكونه أقربَ إلى المبتدإ من الخبر، وأصلها أن تدخُلَ المبتدأَ، وقرئ {لهْوَ} بسكون الهاء، والقصصُ خبرُ إن والحقُّ صفتُه، أو مبتدأٌ والقصصُ خبرُه والجملةُ خبرٌ لإن {وَمَا مِنْ إله إِلاَّ الله} صرّح فيه بمن الاستغراقية تأكيداً للرد على النصارى في تثليثهم {وَإِنَّ الله لَهُوَ العزيز} القادرُ على جميع المقدوراتِ {الحكيم} المحيطُ بالمعلومات لا أحدَ يشاركُه في القدرة والحِكمة ليشاركَه في الألوهية {فَإِن تَوَلَّوْاْ} عن التوحيد وقَبولِ الحقِّ الذي قصَصْنا عليك بعد ما عاينوا تلك الحُججَ النَّيرة والبراهينَ الساطعة {فَإِنَّ الله عَلِيمٌ بالمفسدين} أي بهم، وإنما وُضِعَ موضعَه ما وُضِع للإيذان بأن الإعراضَ عن التوحيد والحقِّ الذي لا محيدَ عنه بعد ما قامت به الحججُ إفسادٌ للعالم وفيه من شدة الوعيدِ ما لا يخفى {قُلْ يا أَهْلِ الكتاب} أمرٌ بخطاب أهلِ الكتابين وقيل: بخطاب وفدِ نجْرانَ وقيل: بخطاب يهودِ المدينةِ {تَعَالَوْاْ إلى كَلِمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} لا يختلف فيها الرسلُ والكتبُ وهي {أَن لا نَعْبُدَ إِلاَّ الله} أي نوحِّدُه بالعبادة ونُخلِصُ فيها {وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً} ولا نجعلَ غيرَه شريكاً له في استحقاق العبادةِ ولا نراه أهلاً لأن يُعبد {وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مّن دُونِ الله} بأن نقولَ عزيرٌ ابنُ الله والمسيحُ ابنُ الله ولا نُطيعَ الأحبارَ فيما أحدثوا من التحريم والتحليل لأن كلاً منهم بعضُنا بشرٌ مثلُنا، روي أنه لما نزلت {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أَرْبَاباً مّن دُونِ الله} قال عديُّ بنُ حاتم: ما كنا نعبُدهم يا رسولَ الله، فقال عليه السلام: «أليس كانوا يُحِلّون لكم ويحرِّمون فتأخذون بقولهم» قال: نعم، قال عليه السلام: «هو ذاك» {فَإِن تَوَلَّوْاْ} عما دعوتَهم إليه من التوحيد وتركِ الإشراك {فَقُولُواْ} أي قل لهم أنت والمؤمنون: {اشهدوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} أي لزِمْتكم الحُجةُ فاعترِفوا بأنا مسلمون دونكم أو اعترِفوا بأنكم كافرون بما نطَقَتْ به الكتُب وتطابقت عليه الرسلُ عليهم السلام.{تنبيه} انظُر إلى ما روعيَ في هذه القصة من المبالغة في الإرشاد وحسنِ التدرُّجِ في المُحاجَّة حيث بيّن أولاً أحوالَ عيسى عليه السلام وما توارد عليه من الأطوار المنافيةِ للإلهية ثم ذُكر كيفيةُ دعوتِه للناس إلى التوحيد والإسلامِ فلما ظهر عندهم دُعُوْا إلى المباهلة بنوع من الإعجاز ثم لما أعرَضوا عنها وانقادوا بعضَ الانقياد دُعوا إلى ما اتفق عليه عيسى عليه السلام والإنجيلُ وسائرُ الأنبياء عليهم السلام والكتُب، ثم لما ظهر عدمُ إجدائِه أيضاً أُمِرَ بأن يقال لهم: اشهدوا بأنا مسلمون..تفسير الآيات (65- 69): {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (65) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (66) مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68) وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (69)}{ياْ أَهْلِ الكتاب} من اليهود والنصارى {لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إبراهيم} أي في مِلّته وشريعتِه. تنازعت اليهودُ والنصارى في إبراهيمَ عليه السلام وزعم كلٌّ منهم أنه عليه السلام منهم وترافَعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت، والمعنى لم تدعون أنه عليه السلام كان منكم {وَمَا أُنزِلَتِ التوراة} على موسى عليه الصلاة والسلام {والإنجيل} على عيسى عليه الصلاة والسلام {إِلاَّ مِن بَعْدِهِ} حيث كان من بينه وبين موسى عليهما السلام ألفُ سنةٍ وبين موسى وعيسى عليهما السلام ألفا سنةٍ فكيف يمكن أن يتفوَّهَ به عاقلٌ {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} أي ألا تتفكرون فلا تعقِلون بطلانَ مذهبِكم أو أتقولون ذلك فلا تعقلون بُطلانه {هأَنتُمْ هؤلاء} جملةٌ من مبتدإ وخبر صُدِّرت بحرف التنبيه ثم بُيِّنت بجملة مستأنفة إشعاراً بكمال غفلتِهم أي أنتم هؤلاءِ الأشخاصُ الحمق حيث {حاججتم فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ} في الجملة حيث وجدتموه في التوراة والإنجيل، {فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} أصلاً إذ لا ذِكْرَ لدين إبراهيمَ في أحد الكتابين قطعاً وقيل: هؤلاء بمعنى الذين وحاججتم صلتُه وقيل: ها أنتم أصلُه أأنتم على الاستفهام للتعجب قلبت الهمزةُ هاءً {والله يَعْلَمُ} ما حاججتم فيه أو كلَّ شيءٍ فيدخُل فيه ذلك دخولاً أولياً {وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} أي محلَّ النزاعِ أو شيئاً من الأشياء التي من جملتها ذلك {مَا كَانَ إبراهيم يَهُودِيّا وَلاَ نَصْرَانِيّا} تصريحٌ بما نطَق به البرهانُ المقرِّر {وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا} أي مائلاً عن العقائد الزائغةِ كلِّها {مُسْلِمًا} أي منقاداً لله تعالى، وليس المرادُ أنه كان على مِلَّة الإسلامِ وإلا لاشترك الإلزامُ {وَمَا كَانَ مِنَ المشركين} تعريضٌ بأنهم مشركون بقولهم: عزيرٌ ابنُ الله والمسيحُ ابنُ الله وردٌّ لادعاء المشركين أنهم على ملة إبراهيمَ عليه الصلاة والسلام {إِنَّ أَوْلَى الناس بإبراهيم} أي أقربَهم إليه وأخصَّهم به {لَلَّذِينَ اتبعوه} أي في زمانه {وهذا النبى والذين ءامَنُواْ} لموافقتهم له في أكثرِ ما شُرع لهم على الأصالة، وقرئ {النبيَّ} بالنصب عطفاً على الضمير في اتبعوه وبالجر عطفاً على إبراهيمَ {والله وَلِىُّ المؤمنين} ينصُرهم ويجازيهم الحسنى بإيمانهم، وتخصيصُ المؤمنين بالذكر ليثبُتَ الحكمُ في النبيِّ صلى الله عليه وسلم بدَلالة النصِّ {وَدَّت طَّائِفَةٌ مّنْ أَهْلِ الكتاب لَوْ يُضِلُّونَكُمْ} نزلت في اليهود حين دعَوا حُذيفةَ وعماراً ومُعاذاً إلى اليهودية و{لَوْ} بمعنى أن {وَمَا يُضِلُّونَ إِلا أَنفُسَهُمْ} جملةٌ حاليةٌ جيء بها للدَلالة على كمال رسوخِ المخاطبين وثباتِهم على ما هم عليه من الدين القويم أي وما يتخطاهم الإضلالُ ولا يعود وبالُه إلا إليهم لما أنه يُضاعفُ به عذابُهم وقيل: وما يُضِلّون إلا أمثالَهم ويأباه قوله تعالى: {وَمَا يَشْعُرُونَ} أي باختصاص وبالِه وضررِه بهم.
|